
وقعت أحداث كثيرة في سنة 289هـ، ولعل أبرزها وفاة الخليفة المعتضد وزيادة نفوذ القرامطة وانتشارهم. ماذا يقول التراث الإسلامي؟
يقول كتاب «البداية والنهاية» للحافظ ابن كثير تحت عنوان «ثم دخلت سنة تسعة وثمانين ومائتين»:
وفيه: عاث القرامطة فساداً في سواد الكوفة، وانتصر بعض العمال على جماعة منهم، فأرسل قائدهم إلى المعتضد وهو أبو الفوارس. وهجم على العباس بين يدي الخليفة، فأمر بإزالة أضراسه، وقطع يديه، ثم قطعتا مع رجليه. ثم قُتل وصلب ببغداد.
وفيه: توجه القرامطة إلى دمشق في جماعة كبيرة، وقاتلهم ممثلهم طغج بن جاف إلى جانب هارون بن خمارويه. لقد هزموه عدة مرات، وتفاقم الوضع بالنسبة لهم. وكان ذلك في سفارة يحيى بن زكرويه بن بحراوية، الذي يزعمه القرامطة أنه محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر بن محمد. ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد كذب في ذلك، وادعى لهم أن مائة ألف اتبعوه في أمره، وأن ناقته تؤمر أينما توجه نصر نحو أهل تلك المنطقة.
وكان فيهم فرج، وكانوا يسمونه الشيخ، وتبعته جماعة من بني الأصبغ، وكانوا يسمون الفاطميين.
فأرسل إليهم الخليفة جيشاً كبيراً فهزموه. ثم مروا بالرصافة فأحرقوا مسجدها. ولم يمروا بقرية إلا ونهبوها. واستمر ذلك حتى وصلوا إلى دمشق، وقاتلهم مندوبها. فهزموه عدة مرات، وقتلوا الكثير من أهلها، ونهبوا الكثير من أموالها.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي هذه الحالة القاسية توفي الخليفة المعتضد بالله في ربيع الأول.
الخليفة المعتضد
هو أحمد بن الأمير أبي أحمد الموفق، الملقب ناصر دين الله، وأبو أحمد اسمه محمد، وقيل: طلحة بن جعفر المتوكل علي بن المعتصم بن هارون الرشيد، أبو الصادق. عباس المعتضد بالله.
ولد سنة اثنتين، وقيل: مائتان وثلاث وأربعون، وكانت أمه أم ولدا.
كان أسمر اللون، نحيفًا، متوسط القامة، له خطوط رمادية طويلة في مقدمة لحيته، وعلى رأسه شامة بيضاء.
وتمت البيعة له صباح يوم الاثنين الحادي عشر من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين، وتولى عبد الله بن وهب بن سليمان، وإسماعيل بن إسحاق، ويوسف بن يعقوب، وابن أبي العال. تولى شوارب منصب القاضي.
وكان أمر الخلافة قد ضعف في أيام عمه المعتمد، فلما تولى المعتضد أقام شعارها ورفع منارتها.
وكان رجلاً شجاعاً فاضلاً من رجال قريش، حازماً جسوراً، شجاعاً حازماً، وكذلك أبوه. وروى ابن الجوزي بإسناده أن المعتضد مر في بعض أسفاره بقرية فيها قثاء، فوقف صاحبها ونادى بالخليفة. فاستدعاه وسأله عن أمره فقال:
أخذ بعض الجيش مني بعض الخيار، وهم بعض عبيدك.
قال: هل تعرفهم؟
قال نعم.
فعرضهم عليه فتعرف على ثلاثة منهم، فأمر الخليفة بربطهم وحبسهم. ولما جاء الصباح رأى الناس ثلاثة مصلبين على الطريق. ففزع الناس من ذلك واستنكروا ذلك ولوموا الخليفة على ذلك وقالوا: قتلوا ثلاثة في خيارة أخذوها؟
وبعد فترة قصيرة أمر الصفوة – الذين كانوا معه – أن ينفوا عنه ذلك ويتلطفوا في مخاطبته في ذلك بحضور الأمراء. فدخل عليه ذات ليلة وهو عازم على ذلك. وفهم الخليفة ما في ذهنه من الكلام الذي يريد أن يعبر عنه، فقال له: أعرف ما في ذهنك. الكلام، ما هو؟
فقال: يا أمير المؤمنين، أمن أنا؟
قال نعم.
فقلت له: إن الناس ينكرون عليك استعجالك في سفك الدماء.
فقال: والله ما أهدرت دماً حراماً منذ توليت الخلافة إلا بحقه.
فقلت له: لماذا قتلت أحمد بن الطيب وهو عبدك ولم تظهر له خيانة؟
قال: ويلك، دعاني إلى الإلحاد والكفر بالله بيني وبينه. فلما دعاني إلى ذلك قلت له: آه، أنا ابن عم صاحب الشريعة، وأنا في مكانه، فأكفر حتى لا أكون من قبيلته.
فقتلته بسبب الكفر والبدعة.
فقلت له: وماذا عن الثلاثة الذين قتلتهم على الخيار؟
فقال: والله ما هؤلاء الذين أخذوا القثاء. بل كانوا لصوصاً قتلوا وأخذوا الأموال، فكان لا بد من قتلهم. فأرسلت وأخرجتهم من السجن وقتلتهم وأريتهم للشعب أنهم هم الذين أخذوا القثاء. أردت أن أرهب الجيش حتى لا يفسدوا في الأرض، ويعتدوا على الناس، ويتوقفوا عن ارتكاب الجرائم. ضرر.
ثم أمر بإخراج الذين أخذوا القثاء، وأطلق سراحهم بعد أن استتابهم، وأقام لهم جنازة وردهم إلى معيشتهم.