اقرأ آخر نقد فنى كتبه الفنان التشكيلى عز الدين نجيب قبل رحيله – شعاع نيوز

رحل الفنان والناقد الكبير الدكتور عز الدين نجيب عن عمر يناهز 83 عاما، بعد صراع مع المرض. آخر ما كتبه الناقد والفنان الكبير عز الدين نجيب، كان عن معرض «اسكتش» الذي افتتح أمس، بقاعة أفق، بمتحف محمود خليل وحرمه. .

يقول الفنان والناقد عز الدين نجيب، إن الرسم الذي يحمل عنوان “البصمة العميقة لشخصية الفنان”، يقول إن أقدم الرسومات التي وصلت إلينا منذ فجر التاريخ هي الرسومات العفوية على شقف الفخار التي عثر عليها في ” “دير المدينة” في البر الغربي للأقصر، حيث أقيمت ورش الفنانين وربما مساكنهم. كما أن هؤلاء الفنانين رسموها في أوقات فراغهم من الواجبات الرسمية الموكلة إليهم، دون نية استخدامهم في أي أعمال دينية أو التقرب من الآلهة أو الحكام، بل لمجرد التعبير الحر عن مشاعرهم وأفكارهم ، وعادةً ما يتم إهمال مصيرها وتدميرها في النهاية، فتبدو مختلفة تمامًا عن طبيعة الرسومات. جنائزية، بل معبرة عن الحياة الحقيقية على جدران المقابر والمعابد وكل ما فيه صفة القداسة وخدمة الإيمان، وبعيدة عن الكمال والأناقة والعظمة. بل بدت أقرب إلى الانطباعات اللحظية لصور الحياة اليومية ذات الإحساس العفوي والدنيوي، المتحرر من سيطرة الأساليب الرسمية التي تقيد حرية الفنان، لكنها تتمتع بالجرأة والطلاقة والإحساس الفردي بصاحبها. بل إن بعضها يحمل إحساسًا ساخرًا أقرب إلى الكاريكاتير، معبرًا عن وجهة نظر الفنان الشخصية التي تعبر عن انتقاده لأمر ما..

وهناك أعمال قليلة من هذا النوع حفظها لنا تاريخ فنون الحضارات التالية حتى عصر النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر. ولعل فنان هذا العصر وعباقرته الذين تتوفر لدينا رسوماتهم ودراسات خطهم هو ليوناردو دافنشي. وهي تتراوح بين خطوط سريعة بالحبر الأسود أو البني. يلتقط الفنان فيه الملامح الأولية لوجوه وحركات شخصياته وخيوله وحيواناته، والدراسات الأولية لتكويناته الهندسية واختراعاته الميكانيكية. وبشكل عام فهو يمثل تجاوز الفنان للقالب الديني الصارم للفن في خدمة الكنيسة والإقطاع. ولا نزال نرى فيه بذرة العبقرية الاستثنائية لهذا الرائد، بوجوهه الإبداعية المتعددة وبصمته الشخصية المبكرة. مما أعطى أعماله طاقات تعبيرية متجددة مع مرور الوقت.

إذا بحثنا في تراث أي فنان عظيم عبر التاريخ، فسنجد العديد من هذه الانطباعات الأولية الجديدة باستخدام الأقلام والأحبار وقطع طباشير الشمع على الورق، والتي تكون بمثابة مفاتيح للأعمال الفنية الكبرى بالزيت أو الفريسك. ستصل إلينا لاحقًا، كاملة ومبهرة، ربما بدون نفس النضارة والغريزة الأولى لرسم المخطط. أو الرسم التحضيري الذي سبقه، بألوان صارمة، وخطوط متحررة، وأنسجة بدائية، وأقل قدر من التفاصيل، باستثناء المقاطع التفصيلية لليدين والأصابع وملامح الوجه، كدراسات تحضيرية للوحة جدارية أو لوحة حامل..

إن التجارب والرسومات والرسومات التحضيرية تستحق أن تكون مورداً لا ينضب للباحثين عن جذور وبصمات إبداع كل فنان، ومعرفة موقفه من الطبيعة في حالتها الأولية، وأيضاً موقفه من المدارس الفنية في خطوطها العريضة، و ثالثاً موقفه من “الشكل الفني” في حالته الجنينية، وأخيراً معرفة طريقة تكييفه وتطوير أسلوبه حتى يصل إلى حالته النهائية في العمل الفني بعد اكتماله.

وحقيقة الأمر أن الرسم القوي هو عمل فني قائم بذاته له أسس بقائه، وأهم مثال على ذلك هو اسكتشات الفنان بيكاسو، حيث نرى بعضها يتطور في أسلوب الفنان من الواقعية إلى التجريد، في حالة نمو تمر بعدة مراحل، من التعبيرية إلى التكعيبية إلى التجريدية.. وخير مثال على ذلك من أعماله جداريته الشهيرة “غيرنيكا” عن الحرب الأهلية الإسبانية ومقاومة الغزو. الفاشية. تعكس رسومات هذه الجدارية تزاحم الشحنة التعبيرية، وتمتلئ بعناصر الحركة والإيقاع والعلاقات المترابطة في التكوين، وتتميز بومضات من الضوء والظل، أو بقع من التباين والتداخل، أو التعتيم والإضاءة. بل إنها تحمل دلالات على فلسفة الشكل نفسه، إذ تبدأ باستلهام الطبيعة والواقع ثم تبدأ بتشويه معالمها وإعادة بنائها برؤية «جشطالت» شاملة بحلول مبتكرة، مما جعل اللوحة في النهاية وهو اتجاه فني عالمي يمكن البناء عليه واستلهام العديد من الفنانين..

ولنأخذ بعض الأمثلة من حركتنا الفنية. كانت اسكتشات الفنان الرائد محمد ناجي عن حياة الصيادين وأصحاب المراكب في ترعة المحمودية، وحياة الحرفيين والعمال، والحيوانات الصديقة للفلاح، وازدحام الأسواق في قرية أبو حمص بالبحيرة وغيرها في الريف المصري. مثل قرى الأقصر، وحتى رسوماته أثناء رحلاته خارج مصر. مثل قبرص واليونان، مثلت أفكاره وانطباعاته الأولى التي مهدت الطريق للوحاته الزيتية الكبيرة اللاحقة. وكان يسجل هذه الانطباعات المكتوبة في دفتر الرسومات الخاص به، والذي لم يفارقه أبدًا. ومنها ما تجده اليوم في متحفه بالقرب من الهرم على طريق الإسكندرية الصحراوي. وكانت هذه الرسومات بمثابة سيارته التي سافر بها. ومن الكلاسيكية التي نشأ عليها متأثراً برموز الفن الأوروبي الشهيرة عندما نسخ أعمالهم… إلى الواقعية حيث استلهم تأثيرات العمارة والنحت في الفن المصري القديم. وفي الأقصر أنشأ لنفسه استوديو هناك منذ عام 1912، بالتناوب مع رحلاته الطويلة إلى عواصم أوروبا، ومن ثم التنقل بالسيارة. تحولت اسكتشات إلى التعبيرية عن ملامح الحياة اليومية في الإسكندرية وأبو حمص بعد أن أصبح أكثر نضجا مما كان عليه في بداياته، ثم انتقل إلى الانطباعية (التأثيرية) عندما انتهى به الأمر إلى أن يتلمذ على رائدها الفنان الفرنسي كلود مونيه، في عام 1918 في الاستوديو الخاص به في ملكية جيفرني، ثم كانت الرسومات هي في النهاية مفتاحه. الفهم الإبداعي للطبيعة والعلاقات الاجتماعية للشعب وحكامهم في الحبشة عام 1930، حيث أكمل مرحلته التعبيرية الشرسة بطعم الحبشة، تلك المرحلة المتفجرة بالقوة والعفوية، وهي التاج الذي يتوج أعماله الفنية رحلة الحياة..

ويمكننا أن نقول نفس المعنى عن الفنان الرائد محمود سعيد، في رسوماته السريعة بالفحم أو الأقلام، عن الحياة الريفية أو الأحياء الشعبية في الإسكندرية، أو على شاطئ البحر، معبرة عن كفاح الصيادين. وفي هذه الرسومات الحرة نجد جوهر الشعور العاطفي والتأملي الرقيق قبل اكتماله ونضجه في لوحاته الزيتية. وربما كان له جانب آخر في شخصيته الفنية. الوجه المتمرد ضد الحبس الكلاسيكي المحافظ لحياة طبقته الأرستقراطية. ولعل هذا ما دفعه أيضاً إلى رسم لوحاته للمرأة العارية، التي اختارها من البيئة الشعبية، رغم وجود عارضات محترفات من أصل أوروبي. وقد سبقت لوحاته الزيتية للنموذج العاري رسومات تخطيطية قوية يبدو فيها الضوء لاعباً أساسياً فوقها، مما يسلط الضوء على تضاريس الجسم. المؤنث منحوت بقوة .

أما الفنان الرائد راغب عياد، فكانت روح الرسم بدايته ونهايته، أي أن الخطوط السوداء السريعة التي تلخص ملامح الطبيعة والناس كانت مفتاح رؤيته الإبداعية. لقد قام بعمل الرسم، بخطوطه المستوحاة من أسلوب الفن المصري القديم، وهو عمل فني قائم بذاته. بل قام بنقل فلسفة هذا الرسم إلى الرسم الزيتي. أي أنه انتقل إليها، محملاً بالإحساس اللحظي المنعش لللقطة كما يظهر في الرسم. كما انتقل إلى اللوحات الكبيرة ذات السياق الحركي والمتسلسل، أفقياً وعمودياً، مهملاً المنظور الهندسي ثلاثي الأبعاد والاكتفاء بالبعدين دون التصلب الأسطواني للأشكال، جاعلاً من تزاحم الأشخاص والخطوط تجمعاً بديلاً للكتلة مع الظل والضوء. ويشبه ذلك التصوير الفوتوغرافي في الفن المصري القديم، فكانت أعماله عبارة عن قطع مرتجلة جمعت بين نضارة الحياة الشعبية وروح الشخصية المصرية الممتدة عبر الزمن..

ولعل الأخوين سيف وأدهم وانلي كانا شاعرين ارتجاليين أكثر من غيرهما طوال الحركة الفنية في مصر. بالإضافة إلى تتبعهم زيارات الفرق الموسيقية والغنائية والعروضية الأجنبية التي تزور الإسكندرية، والجلوس في كواليس مسارحها لتصوير حركات مغنيي الأوبرا والراقصين والموسيقيين بسطور قصيرة، بالإضافة إلى اسكتشاتهم الخاصة ملامح الحياة الشعبية في الإسكندرية. وعلى شاطئ البحر، وكذلك رسوماتهم التاريخية للقرى النوبية – طبيعة وناس – عندما تم بناء السد العالي في بداية الستينيات، قبل أن تغرق هذه القرى في أعماق بحيرة السد، كل هذه كانت بمثابة مختبر ل التجار والإبداع الذي امتزجت فيه لغة الواقع مع لغة الخيال ولغة الجمال معا، وأصبحت هذه الرسومات دروسا بليغة في تصوير جوهر الشخصية ومحاور الحركة والتكوين والإيقاع، تلك العناصر التي شكلت أساس لوحاتهم الزيتية، كل بأسلوبه الخاص..

وهناك تجربة أخرى في هذا الصدد لا ينبغي إغفالها. هذه هي تجربة مرسم الأقصر الذي كان ملحقا بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة بين الأربعينيات والستينيات. ومن خلالها برز معظم فرسان الحركة الفنية في مصر خلال تلك الحقبة، ونضجت مواهبهم العبقرية في حرارة البيئة، مستلهمين عبق التراث الثقافي لمصر الفرعونية وزخم الحياة الريفية في الأقصر الصحراوية. والقرى المترامية الأطراف من حولهم. وكانت الاسكتشات هي جهاز الاستشعار عن بعد لترجمة الحس الإبداعي لدى الفنانين من الطبيعة الخام إلى أرواحهم وحواسهم ومن ثم إلى دفاتر الرسم واللوحات الفنية الخاصة بهم، مما أدى إلى ترسيخ ركائز الهوية المصرية للحركة الفنية، والتي حتى يومنا هذا ولا يزال يحمل جيناته الموروثة وسط تقلبات الفن العالمي ورياحه التي تهب عبر الهويات الوطنية..

وسأحاول أن أذكر ما أذكره من أسماء الفنانين الذين تابعوا هذا الاستديو على مر الأجيال، بداية من الفنانين الرائدين محمد ناجي وراغب عياد، مرورا بالفنانين حسين فوزي، حامد ندا، صلاح طاهر، ممدوح عمار، فاطمة عرارجي، آدم حنين، يوسف فرنسيس، سيد عبد الرسول، رفعت أحمد، عباس شهدي، أحمد الرشيدي، وعبد الرسول. الغفار شديد ونبيل تاج، وأفتخر بانضمامي إلى آخر دفعات الاستوديو (1962-1963) قبل أن يغلق أبوابه لأسباب بيروقراطية وعدم وجود رؤية مستقبلية..

إن المبادرة بعقد هذا الصالون الخاص بالاسكتشات والرسومات التحضيرية خطوة مهمة، ولو جاءت متأخرة، وفرصة للنقاد والباحثين لتوثيق وإحياء هذا الفرع الفني البالغ الأهمية، سواء لأهميته في حد ذاته، أو بالنسبة للتاريخ. وصول الباحث من خلالها إلى عوالم أبعد وأعمق في رؤى الفنانين بعد انتقالهم إلى تنفيذ اللوحة. يعد التصوير الفوتوغرافي والنحت الجداري (النحت البارز) أو النحت المكاني، بالإضافة إلى تحفيز أجيال جديدة من الفنانين والعلماء لصقل مواهبهم على لوحة الرسم والعجلات التحضيرية، من أقوى الأدوات لامتلاك البصمة الشخصية المتميزة لأي إنسان. فنان.


المصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى