
تحل اليوم ذكرى رحيل المفكر الكبير إدوارد سعيد (1935-2003)، المفكر العالمي من أصل فلسطيني. لقد ترك وراءه تراثاً مميزاً وأفكاراً ذات تأثير كبير. ومن الكتب التي صدرت عنه مؤخراً كتاب «إدوارد سعيد.. أماكن الفكر» للتماثي. برنان، ضمن سلسلة عالم المعرفة، الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، ترجمة محمد عصفور.
ويصف الدكتور رشيد الخالدي، الأستاذ في جامعة كولومبيا، هذا الكتاب بأنه “يعرض صورة إدوارد سعيد بكل أبعادها، ويكشف عن زوايا حياته وأعماله الكثيرة التي يجهلها المقربون منه”. ويقول إن تمثيل برنان يعطينا صورة رثائية دقيقة لواحدة من أكثر الشخصيات تأثيرا في القرن الماضي.
كان إدوارد سعيد شخصية محبوبة ومثيرة للجدل، ورائدًا في دراسات ما بعد الاستعمار، وناقدًا أدبيًا واسع الثقافة، ولا تزال كتبه، وخاصة الاستشراق، لها تأثير عميق على الطلاب والمفكرين اليوم. كان ماثيو بيرنان أحد تلامذة سعيد، وظل صديقًا له حتى وفاته عام 2003. وفي هذا الكتاب، يقدم لنا أول سيرة ذاتية كاملة لمشرف أطروحته، المشرف الذي، كما يتضح لنا من هذا الكتاب، كان مدافعًا – بحنان وبلاغة – عن تأثير الأدب على السياسة والحياة المدنية.
يتتبع الكتاب المسار الفكري لسعيد ويخلص إلى أنه كان متمردًا لامعًا: استراتيجي مخادع، ومثقف من نيويورك، كان يتردد على بيروت، وينظم حفلات موسيقية في فايمار، وبرع في سرد القصص على التلفزيون الوطني، وتفاوض… من أجل فلسطين في ألمانيا. وزارة الخارجية الأمريكية، ويمثل في أفلام يلعب فيها دوره في حياته. وقد بحث برنان في التأثيرات شعاع نيوز على فكر سعيد، بالإضافة إلى تتلمذته على أيدي بعض رجال الدولة اللبنانيين. لقد كان حداثيًا فريدًا، وأحد أدباء نيويورك، وباحثًا غيرت كتاباته وجه الحياة الجامعية إلى الأبد. واستطاع سعيد بفكره الثاقب وسحره الشخصي أن يصوغ هذه المعرفة بحيث أصبحت تراثاً مختلفاً عن الإنسانية على خلفية التفوق العلمي والتكنولوجي والحرب الدينية. لقد أعطى العلوم الإنسانية، بوضوح لا مثيل له، مكانة جديدة في عهد ريغان، وهي مكانة لا تزال تحتفظ بها حتى يومنا هذا.
اعتمد برنان على شهادة عائلة سعيد وأصدقائه وطلابه ومنافسيه على حد سواء، بالإضافة إلى سجلات مكتب التحقيقات الفيدرالي، وكتابات سعيد غير المنشورة، ومسودات رواياته، ورسائله الشخصية. وهكذا، يستمد هذا الكتاب من المجال الفكري الواسع لسعيد، ومن الأثر الذي تركه وراءه صورة حميمة غير مسبوقة لواحد من أعظم العقول في القرن العشرين.
ويقول الكتاب
كان سعيد خليطا لا يمكن التنبؤ به، وكان أصدقاؤه يمزحون معه أحيانا ويطلقون عليه لقب “إدواردو” (مفكر عصر النهضة الإيطالي) و”أبو وديع”، وهو الاسم الذي جاء على غرار عادة الثوار الفلسطينيين في استخدام أسماء مستعارة بدلا من أسمائهم الحقيقية. . ومن المثير للدهشة أن سجل مكتب التحقيقات الفيدرالي الخاص به يشير إليه باسم “إدواردو سعيد، المعروف أيضًا باسم إد سعيد”.
وعلى الرغم من أن حالته المزاجية تسوء عندما يتم انتقاده، كما أنه سريع الرد، إلا أنه يتحمل النكات أحياناً. كتب له صديقه العزيز الناشط والباحث الباكستاني إقبال أحمد، رسالة يعود تاريخها إلى أبريل 1999، قبل أشهر من وفاته، للسخرية من الصورة الرومانسية التي تحيط به. وبينما كان يشكر سعيد على المقال الذي كتبه عن الحرب التي دارت في كوسوفو لصحيفة الفجر الباكستانية، تغزل به.
داعبه بمداعبة لا يجرؤ عليها إلا صديق، وأنهى رسالته بلهجة التوسل: «يا ابن فلسطين، أيها القمر المطل على القدس، يا نور الساميين، يا ملجأ العالم، يا ظل الله على الأرض، حفنة متواضعة من الغبار تقدم لك تحية من تحت أقدامك المجيدة المتسربلة… إنها باهظة الثمن، ومرحباً بك مرة أخرى في أرض القنابل والصواريخ والحليب البارد والعسل المعلب. أسعدته هذه النكتة، وجعلته، على حد تعبير صديق آخر له، الصحافي والمعلق السياسي ألكسندر كوبيرن، «ينزل من قاعدة تمثال الشهيد ليضحك على نفسه».
مبالغات أحمد تذكرنا بطرق التقدير التي قوبل بها سعيد على مر السنين والاستقبال الاستثنائي الذي اعتاد عليه طوال حياته. ونظر محمد حسنين هيكل، الإعلامي البارز والساعد الأيمن للرئيس جمال عبد الناصر، إلى صورة شهيرة لسعيد، وقال: “وجهه يبدو مليئا بالألم”. على غرار الصور الرائعة التي تصور آلام المسيح. وهذا النوع من المبالغة يشبه ما قاله الروائي السوداني الكبير الطيب صالح ردا على أحد أصدقائه قائلا: “إدوارد رواية عظيمة وجميلة”. قال صالح: يكبر مع الزمان ويكون أجمل.
وعلى صعيد آخر، صنع سعيد العلوم الإنسانية التي لا يمكن تجاهلها، والعلوم التي كانت أكثر إزعاجا لقادة الرأي في أمريكا وأوروبا والشرق الأوسط. ولم يتوقف عند فضح الفظائع التي ارتكبتها الإمبراطوريتان الأوروبية والأمريكية، والتي يرى البعض أنها هدفه الوحيد. بل أحيا معيارًا أخلاقيًا قديمًا يقوم على الالتزام بما تقوله الكتب في مكانها وزمانها، وهذا ما كان يدعو إليه طوال حياته، وهو أن ما حدث في الماضي لم يعد خارج نطاق قدراتنا على الفهم ولكن يمكن استعادتها من خلال عملية التفسير.